محمد بوكرين عمر كامل من المعتقلات و التهمة مغربي حتى النخاع

لم يمر اعتقال المقاوم و المناضل و النقابي و الحقوقي، محمد بوكرين بمدينة بني ملال، بدون أن يلفت النظر إلى هذا الشيخ الطاعن في السن. و التهمة الجاهزة في ظرف مغلق هي المس بالمقدسات. و هو ما أسفر عن تحرك حقوقي بالداخل و الخارج، حيث نظمت وقفة احتجاجية أمام السفارة المغربية بباريس، إضافة إلى وقفة تضامنية أمام المصالح الدبلوماسية المغربية باسبانيا، بينما شهدت مدن الرباط، سلا، الدار البيضاء، وجدة، القصر الكبير، و بني ملال، وقفات تضامنية أخرى..

إهانة المقدسات

جريدة الوطن

6/23/2007

لم يمر اعتقال المقاوم و المناضل و النقابي و الحقوقي، محمد بوكرين بمدينة بني ملال، بدون أن يلفت النظر إلى هذا الشيخ الطاعن في السن. و التهمة الجاهزة في ظرف مغلق هي المس بالمقدسات. و هو ما أسفر عن تحرك حقوقي بالداخل و الخارج، حيث نظمت وقفة احتجاجية أمام السفارة المغربية بباريس، إضافة إلى وقفة تضامنية أمام المصالح الدبلوماسية المغربية باسبانيا، بينما شهدت مدن الرباط، سلا، الدار البيضاء، وجدة، القصر الكبير، و بني ملال، وقفات تضامنية أخرى..

يستيقظ كل صباح و هو يحمل على ظهره زنازين المغرب المظلمة. و رغم ذلك، فإنه مثل جبل عنيد لا ترتعد فرائصه أمام ريح مباغتة، و لا يكترث لفأران السلطة الذين تعودوا عمراً كاملاً على الرقص بين قدميه، و لا لهؤلاء الجلادين، الذين مسختهم أوقاتهم المغلقة إلى ضفادع و جعارين. إنه محمد بوكرين الذي لا ينظر إلى الخلف إذا أنصت لصرخة المظلوم، و لا يتراجع إذا هبت فوق أحلامه عاصفة غير طيبة.

محن البدايات

ولد محمد بوكرين بتاكزيرت (نواحي بني ملال) في رابع نونبر 1935. و نشأ بأغبالة و درس بالقصيبة، (موحا و سعيد) ثم بثانوية طارق بن زياد بآزرو، حيث بدأ وعيه السياسي و الوطني يتشكل رويداً رويدا إلى أن تأجج و اشتعل، و صار قنبلة موجهة إلى طمع المستعمر؛ و هو ما قاده، بعد ذلك، إلى الفصل النهائي عن الدراسة و التهمة لا تليق إلا بأمثاله: ناشط وطني. و في سنة 1950 ، التحق بحزب الاستقلال و هو في الخامسة عشرة، ليلتحق سنة 1953، بالمنظمة السرية التي كان يقودها الشهيد محمد الزرقطوني، لأنه أدرك أن طريق الحرية دائما مليئة برائحة البارود و الجثث؛ و استمر يقاوم بثبات مثله مثل مجموعة من الأبطال الأفداد الذين فتحوا في جسد المستعمر نافدة فاضت بشمس الاستقلال، رغم فخاخ الخونة و كمائن الأنذال الذين انقضوا على المقاومين و حولوهم إلى حطب في نيران لا تكل، أو إلى كرة ثلج، تأكل بعضها، فحوصر جيش التحرير، و أرغم قادته على وضع السلاح، أو في أحسن الأحوال، على الظفر بقطعة من الكعكة مقابل إفراغ الساحة. لكن بوكرين الذي كان متشبعاً بقلب يتسع لخارطة الوطن، لم يقايض حبه برخصة طاكسي أو حافلة، بل قاد سنة 1960، و هو مسؤول إقليمي لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، إلى جانب البشير بنحمو، أول انتفاضة مسلحة في عهد محمد الخامس. و قد انطلقت تلك الانتفاضة بعملية اغتيال عميد الشرطة أقبلي، و اعتصام الثائرين بجبل كوسر (نواحي واويزغت)، حيث اندلعت مواجهات مع الجيش المغربي الذي كان يقوده مولاي حفيظ العلوي. و قد انتهى الأمر ببوكرين إلى الاعتقال الاحتياطي، الذي استمر 7 سنوات قضاها متنقلاً بين مجموعة من السجون السرية ( ضيعة مازيلا، لايا..الخ). و كان الحكم، بعد كل هذه السنوات هو البراءة لفائدة الشك؟

بعد مغادرته المعتقل، عمل كمحاسب بمعمل السكر بسوق السبت، و هي الوظيفة التي ظل يمارسها إلى جانب نشاطه الحزبي المكثف، حيث شارك في قرارات 30 يوليوز 1972 التي حسمت مع جناح المحجوب بن الصديق داخل الاتحاد الوطني. و في السنة الموالية اعتقل من مقر عمله إثر اندلاع أحداث مولاي بوعزة التي قادها الشهيدان المهدي بنونة و عمر دهكون، و أدين بثلاثة سنوات حبساً نافداً بتهمة حيازة خرائط عسكرية و تهريب الفارين. و منذ ذلك الحين، و هو موقوف عن عمله و لم تتم تسوية وضعيته المالية و الإدارية رغم عرضها على أكثر من جهة، بما فيها هيئة الإنصاف و المصالحة!

في سنة 1978 انتخب عضوا للجنة الإدارية للاتحاد الاشتراكي، و كان من المؤسسين للكونفدرالية الديمقراطية للشغل. بينما أسس سنة 1979، إلى جانب عبد الرحمان بنعمرو و المرحوم محمد الحيحي و آخرين، الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، و كان عضواً لأول لجنة إدارية لها.

مصارعة النمرة

و استمر محمد بوكرين يناضل بالقلب و الأعصاب إلى أن اندلعت، سنة 1980، أحداث المقرات الحزبية بالفقيه بنصالح، حيث انتفض على ما أسماه " انحراف الرفاق"، و قضى بالسجن لهذا السبب عاماً و نصف، ثم كان نصيبه ثلاثة أعوام أخرى، في ماي 1983، بتهمة الهجوم على المقر المركزي للاتحاد الاشتراكي بالرباط.

و هكذا انضم، بعد الإفراج عنه سنة 1986، إلى المنشقين عن الاتحاد الاشتراكي، كقيادي في الجنة الإدارية الوطنية- الاتحاد الاشتراكي، و انتخب، في دجنبر 1993، عضواً للكتابة الوطنية لحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، و في سنة 2000، تعرض لنزيف دموي حاد استمر 13 ساعة ساءت معه حالته الصحية. و في سنة 2002، ثم انتخابه عضوا في المجلس الوطني للمنتدى المغربي من أجل الحقيقة و الإنصاف؛ ثم رئيساً للفرع الجهوي للمنتدى بإقليمي بني ملال و أزيلال سنة 2003.

و إذا كانت مسارات الرجل، كمقاوم و كمناضل و كإنسان، كلها تقود إلى مواجهة الظلم و الاستبداد و الخيانات، فإنه كان طبيعياً أن يقف يوم 5 يونيو 2007، إلى جانب رفاقه ( الهيئة المحلية للتضامن – بني ملال ) في الوقفة التضامنية مع معتقلي فاتح ماي بأكادير و القصر الكبير، متابعين بتهمة المس بالمقدسات. غير أن مكر السلطة ألحقه بالمعتقلين بنفس التهمة، و اقتيد إلى ظل بارد هو الذي سلخ العمر كله في مصارعة النمرة.

و مثل العادة، كان صامدا، لأنه يعرف أن أرحام المغربيات ولادة، و أن رفاقه المناضلين لن يخطؤوا الطريق إلى مساندته بالدم و الروح و الأكباد، هو الذي أعطى دون أن ينتظر " الهدايا " و " المكافئات "، و هم الذين ترعرعوا على قيم الوفاء و العرفان و مساندة الرفاق في أحلك الظروف، و أضيق المنعرجات.

لم ينتظر محمد بوكرين طويلاً، ليرى كيف تحول جسد خديجة الرياضي، رئيسة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، في أول اختبار مباشر مع ذراع المخزن، إلى كرة تتدحرج على رصيف البرلمان، حيث أشبعها " أولاد العنيكري " ضرباً و لكماً و رفساً، و مرغوا في وحل العنف تطلعها إلى وطن فيه متسع للأجلال.

لم ينتظر بوكرين طويلاً ليعرف أن زبانية الوالي فسحوا مسرباً لهم لاقتناص عبد الحميد أمين الذي كان يعج، كالعادة، بالغضب على الأحكام الجائرة التي أدين بها معتقلو فاتح ماي. رفعوه من قدميه و جندلوه على الأرض، كأنهم يمارسون المصارعة الحرة، لم يكن بثقل مصارعي " السومو " بل بوزن الريشة .. لكنهم كانوا يخشون وزنه الباطني الذي يضاهي وزن " الهيملايا ".

دفء الرفاق

لم ينتظر بوكرين طويلاً ليدرك أن الشارع الحقوقي هاج و ماج، و انتعل أحدية من احتجاج، ليقول له: " نحن معك، مع تاريخك النضالي، مع شيبتك، مع وفائك، مع استماتتك، مع أحلامك في وطن حر، فارغ من الأذيال و الضباع و الخونة، نحن معك في الضوء و الظلال، في الأفراح و المحن.. نحن معك بالكامل، و لو دقنا ما دقته، و لو تحولنا جميعاً إلى أرقام في سجون هذا الوطن ".

لم ينتظر بوكرين طويلاً ليعرف أن ضحايا الهراوات بمدينة الرباط تكاثروا على مستعجلات ابن سينا، يوم الجمعة 15 يونيو 2007، حيث وصل عددهم إلى 30 جريحاً أصيب أحدهم بكسر في ذراعه..

لم ينتظر بوكرين طويلاً ليتدفأ بحب الرفاق ..

لم ينتظر اعترافهم الجارف بتاريخه الممتد من أيام المستعمر إلى أيام المس بالمقدسات..

فيحق لهذا الشيخ الطاعن في النضال أن يستريح، ليس من الوطن ( لأنه يسكنه)، بل من الجلادين الذين حولوا الشارع إلى قاعة مستعجلات.. و المس بالمقدسات إلى حاجز لن يقفز عليه إلا الراسخون، مثل نخلة الواحة، في وجه الريح العاتية.